فصل: رشد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


رزق

التّعريف

1 - الرّزق لغةً العطاء دنيويّاً كان أم أخرويّاً، والرّزق أيضاً ما يصل إلى الجوف ويتغذّى به، يقال‏:‏ أعطى السّلطان رزق الجند، ورزقت علماً قال الجرجانيّ‏:‏ الرّزق اسم لما يسوقه اللّه إلى الحيوان فيأكله، فيكون متناولاً للحلال والحرام‏.‏

والرّزق عند الفقهاء هو‏:‏ ما يفرض في بيت المال بقدر الحاجة والكفاية مشاهرةً أو مياومةً‏.‏

وقيل‏:‏ الرّزق هو ما يجعل لفقراء المسلمين إذا لم يكونوا مقاتلين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العطاء‏:‏

2 - العطاء لغةً اسم لما يعطى، والجمع أعطية، وجمع الجمع أعطيات‏.‏

والعطاء عند الفقهاء هو ما يفرض في كلّ سنةٍ لا بقدر الحاجة بل بصبر المعطى له وغنائه في أمر الدّين‏.‏

وقيل في الفرق بين الرّزق والعطيّة أنّ العطيّة ما يفرض للمقاتل، والرّزق ما يجعل لفقراء المسلمين إذا لم يكونوا مقاتلين‏.‏

ونقل ابن عابدين عن الأتقانيّ أنّه نظر في هذا الفرق‏.‏

وقال الحلوانيّ‏:‏ العطاء لكلّ سنةٍ أو شهرٍ، والرّزق يوماً بيومٍ‏.‏

والفقهاء لا يفرّقون بين الرّزق والعطاء في غالب استعمالاتهم‏.‏

قال الماورديّ وأبو يعلى‏:‏ وأمّا تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتّى يستغني بها‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يصرف ‏"‏ الإمام ‏"‏ قدر حاجتهم - يعني أهل العطاء - وكفايتهم‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ يفرّق ‏"‏ الإمام ‏"‏ الأرزاق في كلّ عامٍ مرّةً ويجعل له وقتاً معلوماً لا يختلف، وإذا رأى مصلحةً أن يفرّق مشاهرةً ونحوها فعل‏.‏

كما أنّ الفقهاء يطلقون الرّزق على ما يفرض من بيت المال للمقاتلة ولغيرهم، كالقضاة والمفتين والأئمّة والمؤذّنين‏.‏

أخذ الرّزق للإعانة على الطّاعة

3 - يجوز أخذ الرّزق من بيت المال على ما يتعدّى نفعه إلى جميع المسلمين من المصالح، كالقضاء والفتيا والأذان والإمامة وتعليم القرآن وتدريس العلم النّافع من الحديث والفقه، وتحمّل الشّهادة وأدائها‏.‏

كما يدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريّهم لأنّ ذلك من المصالح العامّة‏.‏

قال ابن تيميّة‏:‏ أمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرةً بل رزق للإعانة على الطّاعة، وأخذ الرّزق على العمل لا يخرجه عن كونه قربةً ولا يقدح في الإخلاص، لأنّه لو قدح ما استحقّت الغنائم وسلب القاتل‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ ‏(‏بيت المال ف 12 ج 8 ص 251‏)‏‏.‏

وفيما يلي بعض الأحكام المتّصلة بالرّزق‏:‏

4 - أ - قال القرافيّ‏:‏ إنّ الأرزاق الّتي تطلق للقضاة والعمّال والولاة يجوز فيها الدّفع والقطع والتّقليل والتّكثير والتّغيير، لأنّ الأرزاق من باب المعروف وتصرف بحسب المصلحة، وقد تعرض مصلحة أعظم من تلك المصلحة فيتعيّن على الإمام الصّرف فيها‏.‏ فقد كتب أبو يوسف في رسالته لأمير المؤمنين هارون الرّشيد‏:‏ ما يجري على القضاة والولاة من بيت مال المسلمين من جباية الأرض أو من خراج الأرض والجزية لأنّهم في عمل المسلمين فيجري عليهم من بيت مالهم ويجري على كلّ والي مدينةٍ وقاضيها بقدر ما يحتمل، وكلّ رجلٍ تصيّره في عمل المسلمين فأجر عليه من بيت مالهم ولا تجر على الولاة والقضاة من مال الصّدقة شيئاً إلاّ والي الصّدقة فإنّه يجرى عليه منها كما قال اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا‏}‏ فأمّا الزّيادة في أرزاق القضاة والعمّال والولاة والنّقصان ممّا يجري عليهم فذلك إليك، من رأيت أن تزيده في رزقه منهم زدت، ومن رأيت أن تحطّ رزقه حططت، أرجو أن يكون ذلك موسّعاً عليك‏.‏

5- ب - قال القرافيّ‏:‏ أرزاق المساجد والجوامع يجوز أن تنقل عن جهاتها إذا تعطّلت أو وجدت جهة هي أولى بمصلحة المسلمين من الجهة الأولى، لأنّ الأرزاق معروف يتبع المصالح فكيفما دارت دار معها‏.‏

6- ج - قال القرافيّ أيضاً‏:‏ الإقطاعات الّتي تجعل للأمراء والأجناد من الأراضي الخراجيّة وغيرها من الرّباع هي أرزاق بيت المال، وليست إجارةً لهم، لذلك لا يشترط فيها مقدار من العمل ولا أجل تنتهي إليه الإجارة، وليس الإقطاع مقدّراً كلّ شهرٍ بكذا، وكلّ سنةٍ بكذا حتّى تكون إجارةً، بل هو إعانة على الإطلاق، ولكن لا يجوز تناوله إلاّ بما قاله الإمام من الشّرط من التّهيّؤ للحرب، ولقاء الأعداء، والمناضلة على الدّين، ونصرة كلمة الإسلام والمسلمين، والاستعداد بالسّلاح والأعوان على ذلك‏.‏ فمن لم يفعل ما شرطه الإمام من ذلك لم يجز له التّناول، لأنّ مال بيت المال لا يستحقّ إلاّ بإطلاق الإمام على ذلك الوجه الّذي أطلقه‏.‏

7 - د - وقال القرافيّ أيضاً‏:‏ المصروف من الزّكاة للمجاهدين ليس أجرةً، بل هو رزق خاصّ من مالٍ خاصٍّ‏.‏

والفرق بين الرّزق الخاصّ وبين أصل الأرزاق هو أنّ أصل الأرزاق يصحّ أن يبقى في بيت المال، وهذا يجب صرفه إمّا في جهة المجاهدين أو غيرهم من الأصناف الثّمانية، لأنّ جهة هذا المال عيّنها اللّه عزّ وجلّ في كتابه العزيز فيجب على الإمام إخراجها فيها إلاّ أن يمنع مانع‏.‏

8- هـ - ما يصرف من جهة الحكّام لقسّام العقار بين الخصوم، ولمترجم الكتب عند القضاة ولكاتب القاضي، ولأمناء القاضي على الأيتام، وللخرّاص على خرص الأموال الزّكويّة من الدّوالي أو النّخل، ولسعاة المواشي والعمّال على الزّكاة، ونحو ذلك من المسائل رزق يجري عليه أحكام الأرزاق دون أحكام الإجارات‏.‏

9- و - نقل الرّحيبانيّ عن ابن تيميّة قوله‏:‏ الأرزاق الّتي يقدّرها الواقفون ثمّ يتغيّر نقد البلد فيما بعد فإنّه يعطى المستحقّ من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط‏.‏

وظائف الإمام في القسمة على أهل الجهاد من المرتزقة

للإمام في القسمة على أهل الجهاد من المرتزقة وظائف‏:‏

10 - إحداها‏:‏ يضع ديواناً - وهو الدّفتر الّذي يثبت فيه الأسماء - فيحصي المرتزقة بأسمائهم وينصب لكلّ قبيلةٍ أو عددٍ يراه عريفاً ليعرض عليه أحوالهم ويجمعهم عند الحاجة ويثبت فيه قدر أرزاقهم‏.‏

11 - الثّانية‏:‏ يعطي كلّ شخصٍ قدر حاجته فيعرف، وعدد من في نفقته، وقدر نفقتهم وكسوتهم وسائر مؤنتهم، ويراعي الزّمان والمكان وما يعرض من رخصٍ وغلاءٍ، وحال الشّخص في مروءته وضدّها، وعادة البلد في المطاعم، فيكفيه المؤنات ليتفرّغ للجهاد فيعطيه لأولاده الّذين هم في نفقته أطفالًا كانوا أو كباراً، وكلّما زادت الحاجة بالكبر زاد في حصّته‏.‏

12 - الثّالثة‏:‏ يستحبّ أن يقدّم الإمام في الإعطاء وفي إثبات الاسم في الدّيوان قريشاً على سائر النّاس‏.‏

13 - الرّابعة‏:‏ لا يثبت الإمام في الدّيوان اسم صبيٍّ ولا مجنونٍ ولا امرأةٍ، ولا ضعيفٍ لا يصلح للغزو كالأعمى والزّمن، وإنّما هم تبع للمقاتل إذا كانوا في عياله يعطي لهم كما سبق، وإنّما يثبت في الدّيوان الرّجال المكلّفين المستعدّين للغزو‏.‏

ولخّص الماورديّ وأبو يعلى شرط إثبات الجيش في الدّيوان في خمسة أوصافٍ وهي‏:‏ البلوغ، والحرّيّة، والإسلام، والسّلامة من الآفات المانعة من القتال، والاستعداد للإقدام على الحروب‏.‏

14 - الخامسة‏:‏ يفرّق الإمام الأرزاق في كلّ عامٍ مرّةً ويجعل له وقتاً معلوماً لا يختلف، وإذا رأى مصلحةً أن يفرّق مشاهرةً ونحوها فعل‏.‏

وإذا تأخّر العطاء عنهم عند استحقاقه وكان حاصلاً في بيت المال كان لهم المطالبة به كالدّيون المستحقّة‏.‏

ومن مات من المرتزقة دفع إلى زوجته وأولاده الصّغار قدر كفايتهم، لأنّه لو لم تعط ذرّيّته بعده لم يجرّد نفسه للقتال، لأنّه يخاف على ذرّيّته الضّياع، فإذا علم أنّهم يكفون بعد موته سهل عليه ذلك‏.‏ وإذا بلغ ذكور أولادهم واختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم الرّزق وإن لم يختاروا تركوا‏.‏

ومن بلغ من أولاده وهو أعمى أو زمن رزق كما كان يرزق قبل البلوغ، هذا في ذكور الأولاد أمّا الإناث فمقتضى ما ورد في ‏"‏ الوسيط ‏"‏ أنّهنّ يرزقن إلى أن يتزوّجن‏.‏

القول الضّابط فيمن يرعاه الإمام

15 - من يرعاه الإمام بما في يده من المال ثلاثة أصنافٍ‏:‏

صنف منهم محتاجون والإمام يبغي سدّ حاجاتهم وهؤلاء معظم مستحقّي الزّكوات في الآية المشتملة على ذكر أصناف المستحقّين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء‏}‏ الآية‏.‏ وللمساكين استحقاق في خمس الفيء والغنيمة كما يفصّله الفقهاء، وهؤلاء صنف من الأصناف الثّلاثة‏.‏

والصّنف الثّاني‏:‏ أقوام ينبغي للإمام كفايتهم ويدرأ عنهم بالمال الموظّف لهم حاجتهم، ويتركهم مكفيّين ليكونوا متجرّدين لما هم بصدده من مهامّ الإسلام وهؤلاء صنفان‏:‏

16 - أحدهما‏:‏ المرتزقة وهم نجدة المسلمين وعدّتهم ووزرهم وشوكتهم، فينبغي أن يصرف إليهم ما يرمّ خلّتهم ويسدّ حاجتهم ويستعفوا به عن وجوه المكاسب والمطالب، ويتهيّئوا لما رشّحوا له، وتكون أعينهم ممتدّةً إلى أن يندبوا فيخفوا على البدار، وينتدبوا من غير أن يتثاقلوا ويتشاغلوا بقضاء أربٍ وتمهيد سببٍ‏.‏

فقد ورد عن المستورد بن شدّادٍ أنّه قال‏:‏ سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ » من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجةً، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً «‏.‏

وفي حديث بريدة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » من استعملناه على عملٍ فرزقناه فما أخذ بعد ذلك فهو غلول «‏.‏

17 - والصّنف الثّاني‏:‏ الّذين انتصبوا لإقامة أركان الدّين، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التّوسّل إلى ما يقيم أودهم ويسدّ خلّتهم، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطّلت أركان الإيمان‏.‏ فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنهم حتّى يسترسلوا فيما تصدّروا له بفراغ جنانٍ، وتجرّد أذهانٍ، وهؤلاء هم القضاة والحكّام والقسّام والمفتون والمتفقّهون، وكلّ من يقوم بقاعدةٍ من قواعد الدّين يلهيه قيامه بها عمّا فيه سداده وقوامه‏.‏

فأمّا المرتزقة فالمال المخصوص بهم أربعة أخماس الفيء، والصّنف الثّاني يدرّ عليهم كفايتهم وأرزاقهم من سهم المصالح‏.‏

‏(‏ر‏:‏ بيت المال‏)‏‏.‏

18 - والصّنف الثّالث‏:‏ قوم تصرف إليهم طائفة من مال بيت المال على غناهم واستظهارهم ولا يوقف استحقاقهم على سدّ حاجةٍ ولا على استيفاء كفايةٍ وهم بنو هاشمٍ وبنو المطّلب، فهؤلاء يستحقّون سهماً من خمس الفيء والغنيمة من غير اعتبار حاجةٍ وكفايةٍ عند بعض الفقهاء‏.‏

وفي المسألة خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏آل ف 14 ج 1 ص 105، وخمس، وغنيمة، وقرابة‏)‏‏.‏

رسالة

انظر‏:‏ إرسال‏.‏

رسغ

التّعريف

1 - الرّسغ لغةً هو من الإنسان مفصل ما بين السّاعد والكفّ، والسّاق والقدم، وهو من الحيوان الموضع المستدقّ الّذي بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرّجل‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالنّسبة للإنسان‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ الرّسغ مفصل الكفّ وله طرفان وهما عظمان‏:‏ الّذي يلي الإبهام كوع، والّذي يلي الخنصر كرسوغ‏.‏

ويذكرون الكوع والرّسغ في بيان حدّ اليد المأمور بغسلها في ابتداء الوضوء ومسحها في التّيمّم، وقطعها في السّرقة‏.‏

الحكم الإجماليّ

غسل اليدين إلى الرّسغين في ابتداء الوضوء

2 - يسنّ غسل اليدين إلى الرّسغين في ابتداء الوضوء في الجملة، سواء قام من النّوم أم لم يقم، لأنّها الّتي تغمس في الإناء وتنقل ماء الوضوء إلى الأعضاء ففي غسلهما إحراز لجميع الوضوء‏.‏

وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله، ولأنّه ورد غسلهما في صفة وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي رواها عثمان، وكذلك في وصف عليٍّ وعبد اللّه بن زيدٍ وغيرهما لوضوئه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنّه فرض وتقديمه سنّة، واختاره في فتح القدير والمعراج والخبّازيّة، وإليه يشير قول محمّدٍ في الأصل‏.‏

وللتّفصيل في أحكام غمس اليد في الإناء قبل غسلها، وحكم غسل اليدين عند القيام من نوم اللّيل أو نوم النّهار، وكيفيّة غسلهما تنظر مصطلحات‏:‏ ‏(‏نوم، وضوء، ويد‏)‏‏.‏

مسح اليدين إلى الرّسغين في التّيمّم

3 - اختلف الفقهاء في حدّ الأيدي الّتي أمر اللّه سبحانه وتعالى بمسحها في التّيمّم في قوله‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ على الاتّجاهات الآتية‏:‏

يرى الحنفيّة والشّافعيّة على المذهب ومالك في إحدى الرّوايتين عنه وجوب استيعاب اليدين إلى المرفقين بالمسح واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » التّيمّم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين «‏.‏

وكذلك بما ورد من حديث الأسلع قال‏:‏ » كنت أخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بآية التّيمّم، فأراني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كيف المسح للتّيمّم، فضربت بيديّ الأرض ضربةً واحدةً، فمسحت بهما وجهي، ثمّ ضربت بهما الأرض فمسحت بهما يديّ إلى المرفقين «‏.‏

وذهب الحنابلة وأبو حنيفة - فيما رواه الحسن عنه - ومالك في الرّواية الأخرى وعليها جمهور المالكيّة والشّافعيّة على القديم والأوزاعيّ والأعمش إلى وجوب مسح اليدين في التّيمّم إلى الرّسغين، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ وقالوا في وجه الاستدلال بالآية‏:‏ إنّ الحكم إذا علّق بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذّراع كقطع السّارق ومسّ الفرج‏.‏

كما احتجّوا بحديث عمّارٍ قال‏:‏ » بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنبت فلم أجد ماءً فتمرّغت في الصّعيد كما تتمرّغ الدّابّة، ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال‏:‏ إنّما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه «‏.‏ وفي لفظٍ‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتّيمّم للوجه والكفّين «‏.‏

وذهب الزّهريّ ومحمّد بن مسلمة وابن شهابٍ إلى أنّ الفرض هو المسح إلى المناكب‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ تيمّم‏)‏‏.‏

موضع القطع من اليد في السّرقة

4 - ذهب فقهاء الأمصار إلى أنّ المستحقّ في السّرقة هو قطع اليمنى من الرّسغ، لأنّ المنصوص قطع اليد، وقطع اليد قد يكون من الرّسغ، وقد يكون من المرفق، وقد يكون من المنكب، ولكن هذا الإبهام زال ببيان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنّه أمر بقطع يد السّارق من الرّسغ، ولأنّ هذا القدر متيقّن به، وفي العقوبات إنّما يؤخذ بالمتيقّن‏.‏ وللتّفصيل‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ سرقة‏)‏‏.‏

رسول

التّعريف

1 - الرّسول في اللّغة هو الّذي أمره المرسل بأداء الرّسالة بالتّسليم أو القبض، والّذي يتابع أخبار الّذي بعثه، أخذاً من قولهم جاءت الإبل رسلاً‏:‏ أي متتابعةً قطيعاً بعد قطيعٍ‏.‏ وسمّي الرّسول رسولاً، لأنّه ذو رسالةٍ‏.‏ وهو اسم مصدرٍ من أرسلت، وأرسلت فلاناً في رسالةٍ فهو مرسل ورسول‏.‏

قال الرّاغب الأصفهانيّ‏:‏ والرّسول يقال تارةً للقول المتحمّل كقول الشّاعر‏:‏ ألا أبلّغ أبا حفصٍ رسولاً وتارةً لمتحمّل القول‏.‏

ويجوز استعماله بلفظٍ واحدٍ للمذكّر والمؤنّث والمثنّى والجمع، كما يجوز التّثنية والجمع فيجمع على رسلٍ‏.‏ كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏، وقال في موضعٍ آخر‏:‏ ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وللرّسول في الاصطلاح معنيان‏:‏ أحدهما الشّخص المرسل من إنسانٍ إلى آخر بمالٍ أو رسالةٍ أو نحو ذلك، وينظر حكمه بهذا المعنى في مصطلح ‏(‏إرسال‏)‏‏.‏

والثّاني‏:‏ الواحد من رسل اللّه‏.‏

ويراد برسل اللّه تارةً الملائكة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولمّا جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم‏}‏، وتارةً يراد بهم الأنبياء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏‏.‏ والرّسول من البشر هو ذكر حرّ أوحى اللّه إليه بشرعٍ وأمره بتبليغه، فإن لم يؤمر بتبليغه فنبيّ فحسب‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - يجب على الرّسول من قبل اللّه تبليغ الدّعوة إلى المرسل إليهم لقوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏

ويجب على من بلغته دعوة الرّسل الإيمان بهم وتصديقهم فيما جاءوا به ومتابعتهم وطاعتهم‏.‏

حكم من سبّ رسولاً من الرّسل عليهم الصلاة والسلام

3 - أجمع أهل العلم على كفر من أنكر نبوّة نبيٍّ من الأنبياء، أو رسالة أحدٍ من الرّسل عليهم الصلاة والسلام، أو كذّبه، أو سبّه، أو استخفّ به، أو سخر منه، أو استهزأ بسنّة رسولنا عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏‏.‏

كما أنّ من سبّ الرّسول يقتل‏.‏

والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة، وتوبة‏)‏‏.‏

ويماثل الرّسول صلى الله عليه وسلم في ذلك بقيّة الرّسل والأنبياء والملائكة، فمن سبّهم أو لعنهم، أو عابهم أو قذفهم أو استخفّ بحقّهم، أو ألحق بهم نقصاً، أو غضّ من مرتبتهم أو نسب إليهم ما لا يليق بمنصبهم على طريق الذّمّ قتل‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏توبة، ردّة‏)‏‏.‏

الذّبح باسم رسول اللّه

4 - لا يجوز الذّبح باسم رسول اللّه، ولا باسم اللّه ومحمّدٍ رسول اللّه - بالجرّ - حيث يجب تجريد اسم اللّه سبحانه وتعالى عن اسم غيره في هذا الموطن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏ الآية، وقول عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه‏:‏ جرّدوا التّسمية عند الذّبح، ولأنّ هذا إشراك اسم اللّه عزّ شأنه واسم غيره‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏ذبائح‏)‏‏.‏

حمى الرّسول صلى الله عليه وسلم

5 - كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يحمي لخاصّة نفسه، ولكنّه لم يفعله صلى الله عليه وسلم وإنّما » حمى النّقيع لخيل المسلمين « وعن ابن عمر قال‏:‏ » حمى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّبذة لإبل الصّدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين «‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في نقض ما حماه الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنّ ما حماه صلى الله عليه وسلم نصّ لا يجوز لأحدٍ من الخلفاء أن ينقضه، وأن يغيّر بحالٍ، سواء بقيت الحاجة الّتي حمى لها أم زالت، لأنّه لا يجوز أن يعارض حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنقضٍ ولا إبطالٍ، ولأنّ هذا تغيير المقطوع بصحّته باجتهادٍ بخلاف حمى غيره من الأئمّة والخلفاء فيجوز نقضه للحاجة‏.‏

وذهب بعض العلماء إلى جواز نقض ما حماه الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا زالت الحاجة الّتي حمى من أجلها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحياء الموات، وحمًى‏)‏‏.‏

رسل أهل الحرب والموادعة

6 - أهل الحرب والموادعة إذا أرسلوا أحداً إلى ديار الإسلام لتبليغ رسالةٍ فهو آمن حتّى يؤدّي الرّسالة إلى الإمام، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤمّن رسل المشركين، ولمّا جاءه رسولا مسيلمة الكذّاب قال لهما‏:‏ » لولا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما «، ولأنّ الحاجة تدعو إلى عقد الأمان للرّسل، فإنّنا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا، فتفوت مصلحة المراسلة‏.‏

وعقد الأمان للرّسول يجوز أن يكون مطلقاً، كما يجوز أن يقيّد بمدّةٍ حسب المصلحة، وهذا إذا لم يكن الإمام موجوداً في الحرم المكّيّ، فإن كان الإمام في الحرم لم يأذن له في الدّخول‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏أمان، حرم‏)‏‏.‏

رشد

التّعريف

1 - الرّشد في اللّغة‏:‏ الصّلاح وإصابة الصّواب والاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّبٍ فيه، وهو خلاف الغيّ والضّلال، قال في المصباح‏:‏ رشد رشداً من باب تعب، ورشد يرشد من باب قتل، فهو راشد، والاسم الرّشاد‏.‏

والرّشيد في صفات اللّه تعالى الهادي إلى سواء الصّراط، والّذي حسن تقديره، قال في اللّسان‏:‏ ومن أسماء اللّه تعالى الرّشيد‏:‏ هو الّذي أرشد الخلق إلى مصالحهم أي هداهم، ودلّهم عليها، فهو رشيد بمعنى مرشدٍ، وقيل‏:‏ هو الّذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سبيل السّداد من غير إشارة مشيرٍ ولا تسديد مسدّدٍ‏.‏

ولا يخرج تعريفه في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ، والرَّشَد أخصّ من الرُّشْد فإنّه يقال في الأمور الدّنيويّة والأخرويّة، والرّشد محرّكة في الأمور الأخرويّة لا غير‏.‏

والرّشد المشترط لتسليم اليتيم ماله ونحو ذلك ممّا يشترط له الرّشد هو صلاح المال عند الجمهور، وصلاح المال والدّين معاً عند الشّافعيّ‏.‏

وذلك في الحكم برفع الحجر للرّشد ابتداءً، فلو فسق بعد ذلك لم يحجر عليه في الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

والمراد بالصّلاح في الدّين أن لا يرتكب محرّماً يسقط العدالة‏.‏ وفي المال‏:‏ أن لا يبذّر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الأهليّة‏:‏

2 - الأهليّة لغةً‏:‏ الصّلاحية، وهي نوعان‏:‏ أهليّة وجوبٍ، وأهليّة أداءً‏.‏

فأهليّة الوجوب هي‏:‏ صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه‏.‏

وأهليّة الأداء هي‏:‏ صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً‏.‏

هذا والرّشد هو المرحلة الأخيرة من مراحل الأهليّة، فإذا بلغ الشّخص رشيداً كملت أهليّته وارتفعت عنه الولاية وسلّمت إليه أمواله بلا خلافٍ‏.‏

ب - البلوغ‏:‏

3 - من معانيه في اللّغة‏:‏ الاحتلام والإدراك‏.‏

وأمّا عند الفقهاء فهو قوّة تحدث للشّخص تنقله من حال الطّفولة إلى حال الرّجولة، وهو يحصل بظهور علامةٍ من علاماته الطّبيعيّة كالاحتلام، وكالحبل والحيض في الأنثى، فإن لم يوجد شيء من هذه العلامات كان البلوغ بالسّنّ، والرّشد والبلوغ قد يحصلان في وقتٍ واحدٍ، وقد يتأخّر الرّشد عن البلوغ تبعاً لتربية الشّخص واستعداده‏.‏

ج - التّبذير‏:‏

4 - وهو في اللّغة‏:‏ مشتقّ من بذر الحبّ في الأرض، وفي الاصطلاح‏:‏ تفريق المال على وجه الإسراف‏.‏

والتّبذير يترتّب عليه عدم الصّلاح في المال، فمن كان مبذّراً كان سفيهاً أي غير رشيدٍ‏.‏

د - الحجر‏:‏

5 - ومعناه في اللّغة‏:‏ المنع من التّصرّف، وفي الاصطلاح‏:‏ صفة حكميّة توجب منع موصوفها من نفوذ تصرّفه في الزّائد على قوّته أو تبرّعه بماله، أو المنع من التّصرّفات الماليّة‏.‏

والصّلة بين الحجر والرّشد أنّ الحجر أثر من آثار فقدان الرّشد‏.‏

هـ – السّفه‏:‏

6 – وهو في اللّغة‏:‏ نقص في العقل وأصله الخفّة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ خفّة تعتري الإنسان فتبعثه على التّصرّف في ماله بخلاف مقتضى العقل، مع عدم الاختلال في العقل، والسّفه نقيض الرّشد‏.‏

وقت الرّشد وكيفيّة معرفته

7 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الرّشد المعتدّ به لتسليم المال لليتيم لا يكون إلاّ بعد البلوغ، فإن لم يرشد بعد بلوغه استمرّ الحجر عليه حتّى ولو صار شيخاً عند جمهور الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة‏.‏

وهذا الرّشد قد يأتي مع البلوغ، وقد يتأخّر عنه قليلاً أو كثيراً، تبعاً لتربية الشّخص واستعداده وتعقّد الحياة الاجتماعيّة أو بساطتها، فإذا بلغ الشّخص رشيداً كملت أهليّته، وارتفعت الولاية عنه وسلّمت إليه أمواله باتّفاق الفقهاء، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏‏.‏

وإذا بلغ غير رشيدٍ وكان عاقلاً كملت أهليّته، وارتفعت الولاية عنه عند أبي حنيفة إلاّ أنّه لا تسلّم إليه أمواله، بل تبقى في يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده بالفعل، أو يبلغ خمساً وعشرين سنةً، فإذا بلغ هذه السّنّ سلّمت إليه أمواله، ولو كان مبذّراً لا يحسن التّصرّف، لأنّ منع المال عنه كان على سبيل الاحتياط والتّأديب، وليس على سبيل الحجر عليه، لأنّ أبا حنيفة لا يرى الحجر على السّفيه، والإنسان بعد بلوغه هذه السّنّ وصلاحيته لأن يكون جدّاً لا يكون أهلاً للتّأديب‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة‏:‏ إنّ الشّخص إذا بلغ غير رشيدٍ كملت أهليّته، ولكن لا ترتفع الولاية عنه، وتبقى أمواله تحت يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏.‏ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏ فإنّه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إلى السّفهاء، وناط دفع المال إليهم بتوافر أمرين‏:‏ البلوغ والرّشد، فلا يجوز أن يدفع المال إليهم بالبلوغ مع عدم الرّشد‏.‏

8 - ويعرف رشد الصّبيّ باختباره لقول اللّه تعالى‏:‏‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ‏}‏ يعني اختبروهم، واختباره بأن تفوّض إليه التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله وذلك يختلف باختلاف طبقات النّاس، فولد التّاجر يختبر في البيع والشّراء والمماكسة فيهما، وولد الزّارع في أمر الزّراعة والإنفاق على القوام بها، والمحترف فيما يتعلّق بحرفته، والمرأة في أمر تدبير المنزل، وحفظ الثّياب، وصون الأطعمة وشبهها من مصالح البيت، ولا تكفي المرّة الواحدة في الاختبار بل لا بدّ من مرّتين فأكثر بحيث يفيد غلبة الظّنّ برشده‏.‏ وذكر الشّافعيّة وجهين في كيفيّة الاختبار أصحّهما‏:‏

أن يدفع إليه قدر من المال ويمتحن في المماكسة والمساومة فإذا آل الأمر إلى العقد، عقد الوليّ‏.‏

والثّاني‏:‏ يعقد الصّبيّ ويصحّ منه هذا العقد للحاجة، ولو تلف في يده المال المدفوع إليه للاختبار فلا ضمان على الوليّ‏.‏

وذكر ابن العربيّ أيضاً وجهين في كيفيّة اختبار الصّبيّ‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يتأمّل أخلاقه ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته والمعرفة بالسّعي في مصالحه، وضبط ماله، أو الإهمال لذلك‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يدفع إليه شيئاً يسيراً من ماله إن توسّم الخير منه ويبيح له التّصرّف فيه، فإن نمّاه وأحسن النّظر فيه فليسلّم إليه ماله جميعه، وإن أساء النّظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه‏.‏

9- وأمّا وقت الاختبار فقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في ظاهر المذهب أنّه يكون قبل البلوغ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ‏}‏ الآية فإنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه سمّاهم يتامى، وإنّما يكونون يتامى قبل البلوغ‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّه مدّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتّى، فدلّ على أنّ الاختبار قبله، ولأنّ تأخير الاختبار إلى البلوغ يؤدّي إلى الحجر على البالغ الرّشيد، لأنّ الحجر يمتدّ إلى أن يختبر ويعلم رشده، واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر إلاّ المراهق المميّز الّذي يعرف البيع والشّراء والمصلحة من المفسدة‏.‏

وذكر المالكيّة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ والحنابلة في وجهٍ أنّه يكون بعد البلوغ، لأنّه قبله ليس أهلاً للتّصرّف، إذ البلوغ الّذي هو مظنّة العقل لم يوجد، فكان عقله بمنزلة المعدوم‏.‏

ولم يجوّز مالك في المدوّنة للصّبيّ الّذي يعقل التّجارة أن يدفع إليه وليّه أو وصيّه مالاً ليتّجر به حيث قال في جواب من سأله عن ذلك‏:‏ لا أرى ذلك جائزاً، لأنّ الصّبيّ مولىً عليه، فإذا كان مولى عليه فلا أرى الإذن له في التّجارة إذناً‏.‏

وقال في اليتيم الّذي بلغ واحتلم والّذي لا يعلم عنه وليّه إلاّ خيراً فأعطاه ذهباً بعد احتلامه ليختبره به وأذن له في التّجارة ليختبره بذلك، أو ليعرف، فداين النّاس فرهقه دين‏:‏ لا أرى أن يعدّى عليه في شيءٍ من ماله، لا فيما في يده، ولا في غير ذلك‏.‏

قيل لمالكٍ‏:‏ إنّه قد أمكنه وأذن له في التّجارة، أفلا يكون ذلك على ما في يديه ‏؟‏ قال‏:‏ لا، لم يدفع إليه ماله المحجور عليه، وإن كان دفعه إليه ليختبره به فهو محجور عليه‏.‏

وجاء في نهاية المحتاج من كتب الشّافعيّة أنّ المخاطب بالاختبار على القول بأنّه يكون قبل البلوغ كلّ وليٍّ، وأمّا على القول بأنّه يكون بعد البلوغ فوجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ الاختبار يكون للوليّ‏.‏

والثّاني‏:‏ يكون للحاكم فقط‏.‏

ونسب الجوريّ الأوّل إلى عامّة الأصحاب، والثّاني إلى ابن سريجٍ‏.‏

ولا فرق في وقت الاختبار بين الذّكر والأنثى عند الجمهور، إلاّ أنّ أحمد أومأ في موضعٍ إلى أنّ الاختبار قبل البلوغ خاصّ بالمراهق الّذي يعرف المعاملة والمصلحة، بخلاف الجارية لنقص خبرتها، وأمّا بعد البلوغ فهما سواء‏.‏

دفع المال إلى الحرّ البالغ العاقل غير الرّشيد

10 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الغلام إذا بلغ غير رشيدٍ لم يسلّم إليه ماله حتّى يبلغ خمساً وعشرين سنةً، فإن تصرّف فيه قبل ذلك نفذ تصرّفه، لأنّه لا يرى الحجر على الحرّ العاقل البالغ إلاّ إذا تعدّى ضرره إلى العامّة كالطّبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمكاري المفلس، فإذا بلغ خمساً وعشرين سنةً يسلّم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرّشد، وبه قال زفر بن الهذيل وهو مذهب النّخعيّ وذهب أبو يوسف، ومحمّد من الحنفيّة، والمالكيّة والشّافعيّة، والحنابلة في الأشهر إلى عدم جواز دفع المال إلى غير الرّشيد حتّى يؤنس منه الرّشد بعد البلوغ، ولا ينفكّ الحجر عنه حتّى ولو صار شيخاً، ولا يجوز تصرّفه في ماله أبداً، وهو قول القاسم بن محمّد بن أبي بكرٍ الصّدّيق، وعليه أكثر أهل العلم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشّام ومصر يرون الحجر على كلّ مضيّعٍ لماله صغيراً كان أو كبيراً، ولم يفرّق الشّافعيّة في ذلك بين الذّكر والأنثى‏.‏ وأمّا المالكيّة فقد زادوا في حقّ الأنثى لفكّ الحجر عنها دخول زوجٍ بها وشهادة العدول بحفظها مالها‏.‏

وذكر الحنابلة في مقابل الأشهر والأصحّ عندهم أنّ الجارية لا يدفع إليها مالها بعد رشدها حتّى تتزوّج وتلد أو تقيم في بيت الزّوج سنةً‏.‏

واختار ذلك أبو بكرٍ والقاضي والشّيرازيّ وابن عقيلٍ لما روى شريح قال‏:‏ عهد إليّ عمر ابن الخطّاب أن لا أجيز لجاريةٍ عطيّةً حتّى تحول في بيت زوجها حولاً أو تلد‏.‏

وذكر صاحب الدّرّ المختار أنّ الخلاف بين أبي يوسف ومحمّدٍ وبين أبي حنيفة في الحجر على الحرّ المكلّف بسبب السّفه والغفلة إنّما محلّه التّصرّفات الّتي تحتمل الفسخ ويبطلها الهزل، وأمّا التّصرّفات الّتي لا تحتمل الفسخ ولا يبطلها الهزل فلا يحجر عليه فيها بالإجماع‏.‏ وقولهما هو المفتى به صيانةً لماله فيكون في أحكامه كصغيرٍ‏.‏

واستدلّ أبو حنيفة لما ذهب إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ‏}‏ فإنّ المراد به بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال إليه بعد البلوغ، إلاّ أنّه منع عنه ماله قبل هذه المدّة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنّصّ‏.‏

وإنّما سمّي يتيماً لقربه من البلوغ، ولأنّ أوّل أحوال البلوغ قد لا يفارقه السّفه باعتبار أثر الصّبا فقدّرناه بخمسٍ وعشرين سنةً، لأنّه حال كمال لبّه‏.‏

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ ينتهي ‏"‏ يتم ‏"‏ لبّ الرّجل إذا بلغ خمساً وعشرين سنةً‏.‏

وقال أهل الطّبائع‏:‏ من بلغ خمساً وعشرين سنةً فقد بلغ رشده، ألا ترى أنّه قد بلغ سنّاً يتصوّر أن يصير جدّاً، لأنّ أدنى مدّةٍ يبلغ فيها الغلام اثنتا عشرة سنةً، فيولد له ولد لستّة أشهرٍ، ثمّ الولد يبلغ في اثنتي عشرة سنةً، فيولد له ولد لستّة أشهرٍ فقد صار بذلك جدّاً، ولأنّ منع المال عنه على سبيل التّأديب عقوبة عليه، والاشتغال بالتّأديب عند رجاء التّأدّب، فإذا بلغ هذه السّنّ فقد انقطع رجاء التّأدّب فلا معنى لمنع المال بعده، وأيضاً فإنّ هذا حرّ بالغ عاقل مكلّف فلا يحجر عليه كالرّشيد‏.‏

واستدلّ القائلون بعدم جواز دفع المال إليه قبل رشده، وعدم صحّة تصرّفه فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏ فقد علّق دفع المال إليهم على شرطين‏:‏ البلوغ، وإيناس الرّشد‏.‏ والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ‏}‏ يعني أموالهم‏.‏

واستدلّوا أيضاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ‏}‏ فأثبت الولاية على السّفيه، ولأنّه مبذّر لماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له دون ذلك‏.‏

هذا والخلاف في استدامة الحجر إلى إيناس الرّشد، أو إلى بلوغ خمسٍ وعشرين سنةً إنّما هو فيمن بلغ مبذّراً‏.‏ فإن بلغ مصلحاً للمال فاسقاً في الدّين استديم الحجر عليه عند الشّافعيّة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏ والفاسق لم يؤنس منه الرّشد، ولأنّ حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق ، لأنّه لا يؤمن أن يدعوه الفسق إلى التّبذير فلم يفكّ الحجر عنه‏.‏

مواطن البحث

11 - ذكر الفقهاء الرّشد في كثيرٍ من أبواب الفقه، فقد ذكروه في البيع وفي الشّركة وفي الوكالة وفي ضمان تلف العاريّة وفي شرط المعير وفي الإقرار فيما لو أقرّ أحد الوارثين بوارثٍ‏.‏

وجعله الشّافعيّة شرطاً لخروجه لفرض الكفاية، وذكره الفقهاء في الهبة، وفي الوقف، وفي وليّ النّكاح، وفي رضا الزّوج بالنّكاح، وفي الخلع في شروط الموجب والقابل، وفي حاضن اللّقيط، والتّفصيل محلّه الأبواب الخاصّة بتلك المواضع هذا فضلاً عمّا ذكره الفقهاء في أحكام الحجر على الصّبيّ والسّفيه‏.‏

وينظر‏:‏ ‏(‏حجر، وسفه‏)‏‏.‏

رشوة

التّعريف

1 - الرّشوة في اللّغة‏:‏ مثلّثة الرّاء‏:‏ الجعل، وما يعطى لقضاء مصلحةٍ، وجمعها رشاً ورشاً‏.‏

قال الفيّوميّ‏:‏ الرّشوة - بالكسر -‏:‏ ما يعطيه الشّخص للحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ الرّشوة‏:‏ الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرّشاء الّذي يتوصّل به إلى الماء‏.‏

وقال أبو العبّاس‏:‏ الرّشوة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى أمّه لتزقّه‏.‏

وراشاه‏:‏ حاباه، وصانعه، وظاهره‏.‏

وارتشى‏:‏ أخذ رشوةً، ويقال‏:‏ ارتشى منه رشوةً‏:‏ أي أخذها‏.‏

وترشّاه‏:‏ لاينه، كما يصانع الحاكم بالرّشوة‏.‏

واسترشى‏:‏ طلب رشوةً‏.‏

والرّاشي‏:‏ من يعطي الّذي يعينه على الباطل‏.‏

والمرتشي‏:‏ الآخذ‏.‏

والرّائش‏:‏ الّذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا‏.‏

وقد تسمّى الرّشوة البرطيل وجمعه براطيل‏.‏

قال المرتضى الزّبيديّ‏:‏ واختلفوا في البرطيل بمعنى الرّشوة، هل هو عربيّ أو لا ‏؟‏‏.‏

وفي المثل‏:‏ البراطيل تنصر الأباطيل‏.‏

والرّشوة في الاصطلاح‏:‏ ما يعطى لإبطال حقٍّ، أو لإحقاق باطلٍ‏.‏

وهو أخصّ من التّعريف اللّغويّ، حيث قيّد بما أعطي لإحقاق الباطل، أو إبطال الحقّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المصانعة‏:‏

2 - المصانعة‏:‏ أن تصنع لغيرك شيئاً ليصنع لك آخر مقابله، وكنايةً عن الرّشوة، وفي المثل‏:‏ من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة‏.‏

ب - السّحت - بضمّ السّين‏:‏

3 - أصله من السّحت - بفتح السّين - وهو الإهلاك والاستئصال، والسّحت‏:‏ الحرام الّذي لا يحلّ كسبه، لأنّه يسحت البركة أي‏:‏ يذهبها‏.‏

وسمّيت الرّشوة سحتاً‏.‏ وقد سار بعض الفقهاء على ذلك‏.‏

لكن السّحت أعمّ من الرّشوة، لأنّ السّحت كلّ حرامٍ لا يحلّ كسبه‏.‏

ج - الهديّة‏:‏

4 - ما أتحفت به غيرك، أو ما بعثت به للرّجل على سبيل الإكرام، والجمع هدايا وهداوى - وهي لغة أهل المدينة - يقال‏:‏ أهديت له وإليه، وفي التّنزيل ‏{‏وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ‏}‏‏.‏

قال الرّاغب‏:‏ والهديّة مختصّة باللّطف، الّذي يهدي بعضنا إلى بعضٍ، والمهدى‏:‏ الطّبق الّذي يهدى عليه‏.‏

والمهداء‏:‏ من يكثر إهداء الهديّة‏.‏

وفي كشّاف القناع الرّشوة هي‏:‏ ما يعطى بعد الطّلب، والهديّة قبله‏.‏

د - الهبة‏:‏

5 - الهبة في اللّغة العطيّة بلا عوضٍ‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ الهبة‏:‏ العطيّة الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت سمّي صاحبها وهّاباً‏.‏

واتّهبت الهبة‏:‏ قبلتها، واستوهبتها‏:‏ سألتها، وتواهبوا‏:‏ وهب بعضهم البعض‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ إذا أطلقت هي التّبرّع بماله حال الحياة بلا عوضٍ‏.‏ وقد تكون بعوضٍ فتسمّى هبة الثّواب‏.‏

والصّلة بين الرّشوة والهبة، أنّ في كلٍّ منهما إيصالاً للنّفع إلى الغير، وإن كان عدم العوض ظاهراً في الهبة، إلاّ أنّه في الرّشوة ينتظر النّفع، وهو عوض‏.‏

و - الصّدقة‏:‏

6 - ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزّكاة، لكن الصّدقة في الأصل تقال للمتطوّع به، والزّكاة للواجب، وقد يسمّى الواجب صدقةً، إذا تحرّى صاحبها الصّدق في فعله‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ الهبة والصّدقة والهديّة والعطيّة معانيها متقاربة، وكلّها تمليك في الحياة بغير عوضٍ، واسم العطيّة شامل لجميعها‏.‏

والفرق بين الرّشوة والصّدقة‏:‏ أنّ الصّدقة تدفع طلباً لوجه اللّه تعالى، في حين أنّ الرّشوة تدفع لنيل غرضٍ دنيويٍّ عاجلٍ‏.‏

أحكام الرّشوة

7 - الرّشوة في الحكم، ورشوة المسئول عن عملٍ حرام بلا خلافٍ، وهي من الكبائر‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏، قال الحسن وسعيد بن جبيرٍ‏:‏ هو الرّشوة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وروى عبد اللّه بن عمرٍو قال‏:‏ »لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّاشي والمرتشي « وفي روايةٍ زيادة » والرّائش «‏.‏

ويحرم طلب الرّشوة، وبذلها، وقبولها، كما يحرم عمل الوسيط بين الرّاشي والمرتشي‏.‏ غير أنّه يجوز للإنسان - عند الجمهور - أن يدفع رشوةً للحصول على حقٍّ، أو لدفع ظلمٍ أو ضررٍ، ويكون الإثم على المرتشي دون الرّاشي‏.‏

قال أبو اللّيث السّمرقنديّ‏:‏ لا بأس أن يدفع الرّجل عن نفسه وماله بالرّشوة‏.‏

وفي حاشية الرّهونيّ أنّ بعض العلماء قال‏:‏ إذا عجزت عن إقامة الحجّة الشّرعيّة، فاستعنت على ذلك بوالٍ يحكم بغير الحجّة الشّرعيّة أثم دونك إن كان ذلك زوجةً يستباح فرجها، بل يجب ذلك عليك، لأنّ مفسدة الوالي أخفّ من مفسدة الزّنا والغصب، وكذلك استعانتك بالأجناد يأثمون ولا تأثم، وكذلك في غصب الدّابّة وغيرها، وحجّة ذلك أنّ الصّادر من المعين عصيان لا مفسدة فيه، والجحد والغصب عصيان ومفسدة، وقد جوّز الشّارع الاستعانة بالمفسدة - لا من جهة أنّها مفسدة - على درء مفسدةٍ أعظم منها، كفداء الأسير، فإنّ أخذ الكفّار لمالنا حرام عليهم، وفيه مفسدة إضاعة المال، فما لا مفسدة فيه أولى أن يجوز‏.‏

فإن كان الحقّ يسيراً نحو كسرةٍ وتمرةٍ، حرّمت الاستعانة على تحصيله بغير حجّةٍ شرعيّةٍ ‏;‏ لأنّ الحكم بغير ما أمر اللّه به أمر عظيم لا يباح باليسير‏.‏

واستدلّوا من الأثر بما ورد عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه كان بالحبشة فرشا بدينارين، حتّى خلّي سبيله‏.‏ وقال‏:‏ إنّ الإثم على القابض دون الدّافع‏.‏

وعن عطاءٍ والحسن‏:‏ لا بأس بأن يصانع الرّجل عن نفسه وماله إذا خاف الظّلم‏.‏

أقسام الرّشوة

8 - قسّم الحنفيّة الرّشوة إلى أربعة أقسامٍ منها‏:‏

أ - الرّشوة على تقليد القضاء والإمارة وهي حرام على الآخذ والمعطي‏.‏

ب - ارتشاء القاضي ليحكم، وهو كذلك حرام على الآخذ والمعطي، ولو كان القضاء بحقٍّ، لأنّه واجب عليه‏.‏

ج - أخذ المال ليسوّي أمره عند السّلطان، دفعاً للضّرر أو جلباً للنّفع، وهو حرام على الآخذ فقط‏.‏

د - إعطاء إنسانٍ غير موظّفٍ عند القاضي أو الحاكم مالاً ليقوم بتحصيل حقّه له، فإنّه يحلّ دفع ذلك وأخذه، لأنّه وإن كانت معاونة الإنسان للآخر بدون مالٍ واجبةً، فأخذ المال مقابل المعاونة لم يكن إلاّ بمثابة أجرةٍ‏.‏

حكم الرّشوة بالنّسبة للمرتشي

أ - الإمام والولاة‏:‏

9 - قال ابن حبيبٍ‏:‏ لم يختلف العلماء في كراهية الهديّة إلى السّلطان الأكبر، وإلى القضاة والعمّال وجباة الأموال - ويقصد بالكراهية الحرمة -‏.‏

وهذا قول مالكٍ ومن قبله من أهل العلم والسّنّة‏.‏

وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبل الهديّة، وهذا من خواصّه، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم ممّا يتّقى على غيره منها، ولمّا ردّ عمر بن عبد العزيز الهديّة، قيل له‏:‏ كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبلها، فقال‏:‏ كانت له هديّةً، وهي لنا رشوة، لأنّه كان يتقرّب إليه لنبوّته لا لولايته، ونحن يتقرّب بها إلينا لولايتنا‏.‏

ينظر التّفصيل في ‏(‏إمامة فقرة 28، 29‏)‏‏.‏

ب - العمّال‏:‏

10 - وحكم الرّشوة إلى العمّال ‏"‏ الولاة ‏"‏ كحكم الرّشوة إلى الإمام - كما مرّ في كلام ابن حبيبٍ لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏» هدايا الأمراء غلول «‏.‏

ولحديث ابن اللّتبيّة‏.‏

قال الصّدر الشّهيد‏:‏ وإنّما كان كذلك، لأنّ تعزّز الأمير ومنعته بالجند وبالمسلمين لا بنفسه، فكانت الهديّة لجماعة المسلمين بمنزلة الغنيمة، فإذا استبدّ به كان ذلك منه خيانةً، بخلاف هدايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأنّ تعزّزه ومنعته كانت بنفسه لا بالمسلمين، فصارت الهديّة له لا للمسلمين‏.‏

ج - القاضي‏:‏

11 - والرّشوة إلى القاضي حرام بالإجماع‏.‏

قال الجصّاص‏:‏ ولا خلاف في تحريم الرّشا على الأحكام، لأنّه من السّحت الّذي حرّمه اللّه في كتابه، واتّفقت الأمّة عليه، وهي محرّمة على الرّاشي والمرتشي‏.‏

قال في كشّاف القناع‏:‏ ويحرم قبوله هديّةٍ، واستعارته من غيره كالهديّة لأنّ المنافع كالأعيان، ومثله ما لو ختن ولده ونحوه فأهدي له، ولو قلنا إنّها للولد، لأنّ ذلك وسيلة إلى الرّشوة، فإن تصدّق عليه فالأولى أنّه كالهديّة، وفي الفنون له أخذ الصّدقة‏.‏

وهديّة القاضي فيها تفصيل تنظر في ‏(‏هديّة، قضاء‏)‏‏.‏

د - المفتي‏:‏

12 - يحرم على المفتي قبول رشوةٍ من أحدٍ ليفتيه بما يريد، وله قبول هديّةٍ‏.‏

قال ابن عرفة‏:‏ قال بعض المتأخّرين‏:‏ ما أهدي للمفتي، إن كان ينشط للفتيا أهدي له أم لا، فلا بأس، وإن كان إنّما ينشط إذا أهدي له فلا يأخذها، وهذا ما لم تكن خصومة، والأحسن أن لا يقبل الهديّة من صاحب الفتيا، وهو قول ابن عيشونٍ وكان يجعل ذلك رشوةً‏.‏

هـ – المدرّس‏:‏

13 – إن أهدي إليه تحبّباً وتودّداً لعلمه وصلاحه فلا بأس بقبوله، وإن أهدي إليه ليقوم بواجبه فالأولى عدم الأخذ‏.‏

و - الشّاهد‏:‏

14 - ويحرم على الشّاهد أخذ الرّشوة‏.‏ وإذا أخذها سقطت عدالته‏.‏

وانظر تفصيل ذلك في ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

حكم الرّشوة بالنّسبة للرّاشي

أ - الحاجّ‏:‏

15 - لا يلزم الحجّ مع الخفارة، وإن كانت يسيرةً، لأنّها رشوة، عند الحنفيّة وجمهور الحنابلة، وقال مجد الدّين بن تيميّة وحفيده تقيّ الدّين وابن قدامة‏:‏ يلزمه الحجّ ولو كان يدفع خفارةً إن كانت يسيرةً‏.‏

أمّا الشّافعيّة فلهم تفصيل في المسألة، قال النّوويّ‏:‏ ويكره بذل المال للرّصديّين، لأنّهم يحرصون على التّعرّض للنّاس بسبب ذلك، ولو وجدوا من يخفرهم بأجرةٍ، ويغلب على الظّنّ أمنهم به، ففي لزوم استئجاره وجهان‏.‏ قال الإمام‏:‏ أصحّهما لزومه، لأنّه من أهب الطّريق كالرّاحلة‏.‏

ومذهب المالكيّة قريب من مذهب الشّافعيّة‏.‏

ب - صاحب الأرض الخراجيّة‏:‏

16 - يجوز لصاحب الأرض الخراجيّة أن يرشو العامل القابض لخراجه، ويهدي له لدفع ظلمٍ في خراجه، لأنّه يتوصّل بذلك إلى كفّ اليد العادية عنه، ولا يجوز أن يرشوه أو يهديه ليدع عنه خراجاً، لأنّه يتوصّل به إلى إبطال حقٍّ‏.‏

ج - القاضي‏:‏

17 - مذهب جمهور الفقهاء أنّه يحرم على القاضي أن يرشو لتحصيل القضاء، ومن تقبّل القضاء بقبالةٍ ‏"‏ عوضٍ ‏"‏، وأعطى عليه الرّشوة فولايته باطلة‏.‏

وقال النّوويّ رحمه الله‏:‏ لو بذل مالاً ليتولّى القضاء، فقد أطلق ابن القاصّ وآخرون أنّه حرام وقضاؤه مردود‏.‏

وقال ابن عابدين نقلاً عن ابن نجيمٍ في البحر الرّائق‏:‏ ولم أر حكم ما إذا تعيّن عليه القضاء ولم يولّ إلاّ بمالٍ هل يحلّ بذله ‏؟‏ وينبغي أن يحلّ بذله للمال كما يحلّ طلب القضاء‏.‏

ثمّ قال ابن عابدين‏:‏ إذا تعيّن على شخصٍ تولّي القضاء يخرج عن عهدة الوجوب بسؤالهم أن يولّوه، فإذا منعه السّلطان أثم بالمنع، لأنّه منع الأولى وولّى غيره، فيكون قد خان اللّه ورسوله وجماعة المسلمين، وإذا منعه لم يبق واجباً عليه، فلا يحلّ له دفع الرّشوة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يحرم بذل المال في ذلك أي في نصبه قاضياً، ويحرم أخذ المال على تولية القضاء‏.‏

حكم القاضي

18 - اختلف العلماء في صحّة حكم القاضي المرتشي، فمذهب جمهور الفقهاء أنّه لا ينفذ قضاؤه، وكذلك لا ينفذ قضاؤه إذا تولّى القضاء برشوةٍ‏.‏

ولكن لبعض الحنفيّة تفصيل في حكم القاضي المرتشي‏.‏

قال منلا خسرو في بيان مذهب الحنفيّة‏:‏ إذا حكم القاضي بالرّشوة سواء كان حكمه قبل أخذه الرّشوة أو بعد أخذ الرّشوة ففي ذلك اختلاف على ثلاثة أقوالٍ‏:‏

أ - فعلى قولٍ‏:‏ أنّ حكم القاضي صحيح إذا كان موافقاً للمسألة الشّرعيّة، سواء في الدّعوى الّتي ارتشى فيها أو الّتي لم يرتش فيها، وبأخذ الرّشوة لا يبطل الحكم، لأنّ حاصل أخذ الرّشوة هو فسق القاضي، وبما أنّ فسق القاضي لا يوجب انعزاله فولاية القاضي باقية، وإذا كان قضاؤه بحقٍّ يلزم نفاذ قضائه‏.‏

ب - وعلى قولٍ آخر‏:‏ لا ينفذ حكم القاضي في الدّعوى الّتي ارتشى فيها، قال قاضي خان‏:‏ إنّ القاضي لو أخذ رشوةً وحكم فحكمه غير نافذٍ، ولو كان حكمه بحقٍّ، لأنّ القاضي في هذه الصّورة يكون قد استؤجر للحكم، والاستئجار للحكم باطل، لأنّ القضاء واجب على القاضي‏.‏

ج - وعلى قولٍ ثالثٍ‏:‏ أنّه لا ينفذ حكم القاضي المرتشي في جميع الدّعاوى الّتي حكم فيها‏.‏ وهذا قول الخصّاف والطّحاويّ‏.‏

انعزال القاضي

19 - ذهب الشّافعيّة - في المعتمد - والحنابلة، وأبو حنيفة، والخصّاف، والطّحاويّ من الحنفيّة وابن القصّار من المالكيّة إلى أنّ الحاكم ينعزل بفسقه، ومن ذلك قبوله الرّشوة‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كلّ حكمٍ حكم به بعد ذلك‏.‏

ومذهب الآخرين أنّه لا ينعزل بذلك، بل ينعزل بعزل الّذي ولاه‏.‏

أثر الرّشوة

أ - في التّعزير‏:‏

20 - هذه الجريمة ليس فيها عقوبة مقدّرة فيكون فيها التّعزير‏.‏

انظر‏:‏ تعزير‏.‏

ب - دعوى الرّشوة على القاضي‏:‏

21 - للقاضي أن يؤدّب خصماً افتات عليه بقوله حكمت عليّ بغير حقٍّ، أو ارتشيت ونحوه بضربٍ لا يزيد على عشرة أسواطٍ وحبس، وأن يعفو عنه، ولو لم يثبت افتياته عليه ببيّنةٍ‏.‏

ج - في الحكم بالرّشد‏:‏

22 - صرف المال في محرّمٍ كرشوةٍ عدم صلاحٍ للدّين وللمال، ممّا يؤثّر في الحكم برشد الصّبيّ‏.‏

د - المال المأخوذ‏:‏

23 - إن قبل الرّشوة أو الهديّة حيث حرّم القبول وجب ردّها إلى صاحبها، كمقبوضٍ بعقدٍ فاسدٍ، وقيل تؤخذ لبيت المال لخبر ابن اللّتبيّة‏.‏

وقال ابن تيميّة فيمن تاب عن أخذ مالٍ بغير حقٍّ‏:‏ إن علم صاحبه دفعه إليه، وإلاّ دفعه في مصالح المسلمين‏.‏